مقدمة
تعد قواعد المسئولية وتكييف طبيعتها؛ وبيان أساسها من الركائز الأساسية في النظام القانوني، وهي تحتل مركز الصدارة في الحياة العملية، لذا فإنها محل اهتمام الفقه والقضاء في المجتمع المعاصر؛ ليس في القانون المدني فحسب؛ بل في مختلف فروع القانون.
وقد تطورت قواعد المسئولية مع الزمن استجابة لتطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، باعتبارها مرآة المجتمع وتعبر عن هوية السلطة الحاكمة فيه. فالنظام الذي يقيم المسئولية على الخطأ الثابت الذي يفترض عبء إثباته على المتضرر؛ ويبيح الإعفاء من المسئولية، هو نظام يحمي المستغل أو القوي ضد الطبقات المستغلة أو الضعيفة. أما النظام الذي يهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وحماية الطرف الضعيف؛ فإنه يبطل شروط الإعفاء من المسئولية ويقيم المسئولية على عنصر الضرر وحده.
وقد سادت النظرية التقليدية التي تجعل الخطأ أساسا للمسئولية فترة من الزمن، ثم أعقبها نظريات تطرح الخطأ جانبا وتقيم المسئولية على عنصر الضرر.
كما أن تكييف طبيعة المسئولية يختلف باختلاف المصدر الذي ينشئ التزام المسئول، فإذا كان مصدر الالتزام هو العقد؛ فإن المسئولية تكون عقدية؛ وإذا كان مصدر الالتزام غير عقدي كانت المسئولية تقصيرية؛ أما إذا كان مصدر الالتزام هو القانون أي أن القانون هو الذي قرره بحيث لا يمكن نسبته إلى مصدر آخر، كانت المسئولية قانونية؛ وهي مسئولية يقررها المشرع استجابة للقيم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ورغم أهمية مسئولية المهنيين بصورة عامة، ومسئولية المحامين بصفة خاصة، فإن القانون المدني (مجلة الأحكام العدلية) لم تنظم أحكامها وإنما أخضعتها للقواعد العامة في المسئولية المدنية. إلا أن المشرع الفلسطيني اعترافا منه بخطورة دور المحامين في المجتمع أصدر قانون تنظيم مهنة المحاماة رقم 3 لسنة 1999 حدد فيه حقوق والتزامات المحامين؛ أسوة بما فعله المشرعون في الأنظمة المعاصرة، ومع ذلك فإن مخالفة أحكام هذا القانون رغم أهميته تقتصر على الجزاء التأديبي.
ومع ذلك فإن لقواعد المهنة التي حددها قانون تنظيم مهنة المحاماة انعكاسا على مسئولية المحامي في دائرة القانون المدني، فالتمييز بين الأفراد بحسب مهنهم ضرورة حتمية لا يمكن إغفالها؛ حيث يجب أن يتحدد المركز القانوني للشخص بالنظر إلى المهنة التي يزاولها والتي تحدد مدى حقوقه والتزاماته، وليس بالنظر إليه مجردا. ذلك أنه ليس من المعقول أن تقاس مسئولية المحامي عن أخطائه بذات المعيار الذي تقاس به مسئولية الشخص العادي. لأنه إذا كانت هناك أمور يغتفر للرجل العادي إغفالها؛ فإن عدم مراعاتها من المحامي يمكن أن يعتبر إغفالا أكيدا منه لواجباته وخطأ محققا، فما ينتظر من رجل المهنة من حرص هو أكثر مما ينتظر من الرجل العادي.
فالمحامون يتمتعون بحقوق وصلاحيات لا يتمتع بها الشخص العادي أو غيره من المهنيين، فمع أنه يستمد سلطته من الاتفاق مع عميله؛ إلا أنه فضلا عن ذلك يستمد سلطته من القانون حينا؛ ومن القضاء أحيانا أخرى. فقد نص قانون تنظيم مهنة المحاماة على احتكار المحامين مهمة الدفاع عن الخصوم أمام القضاء؛ وفرض مقابل هذا الحق التزامات حددها وشاركته في النص عليها قوانين أخرى كان لها أثر كبير في تحديد مسئولية المحامي المدنية.
وتبدو أهمية دراسة مسئولية المحامي عن خطئه المهني، في أن المتضررين من أخطاء المحامين في أغلب الحالات يكتفون برفع شكاواهم إلى نقابة المحامين، وإذا اقتنعت النقابة بثبوت خطأ المحامي فإنها تحيله إلى مجلس تأديبي لا يوقع عليه غير جزاء تأديبي، قد يكون منعه من مزاولة المهنة مدة معينة، وهو جزاء لا علاقة له بتعويض الضرر الذي لحق بموكله، وبذلك تنتفي الفائدة من شكوى الموكل؛ ويفلت المحامي من المسئولية المدنية وما ترتبه من إلزامه بتعويض الضرر؛ فتضيع بذلك حقوق الموكلين المتضررين.