أ. د. عثمان التكروري
قاضي المحكمة العليا سابقا
أعدت هذه الدراسة عام 2014 بطلب من رئيس مركز الحوكمة الفلسطيني الدكتور هشام عورتاني.
بدأت فكرة الحوكمة – بمعنى التوجيه والإدارة الرشيدة – في شركات المساهمة العامة؛ بهدف ضمان الإفصاح والشفافية الكاملة، لتحقيق الكفاءة الاقتصادية؛ مع التركيز على رفاهية المساهمين. إلا أن هذه الفكرة لم تعد تقتصر على الشركات؛ بل أصبحت تشمل أي نشاط تقوم به الإدارة في مختلف القطاعات؛ بما في ذلك مؤسسات الدولة ومنها القضاء.
ولما كنت قد عملت ثماني سنوات في المحكمة العليا، فإن عملي هذا قد أتاح لي فرصة التعرف عن قرب على ما يعانيه القضاء من مشكلات انعكست على أدائه؛ وأدت إلى الشكوى من قبل المتقاضين، الأمر الذي يستلزم المناداة بحوكمة القضاء لتقليل هذه المشكلات ما أمكن وتحقيق الكفاءة المطلوبة، مع تركيز على سرعة الفصل في الدعاوى وتطبيق القانون تطبيقا سليما.
وفي حديثنا عن حوكمة القضاء لا بد أن نفرق بين القاضي كمنصب قضائي له احترامه، وبين شاغل هذا المنصب من حيث مؤهلاته وسلوكه. فقانون السلطة القضائية – رغم ما فيه من نواقص وثغرات – حدد شروطا ومواصفات في القاضي لا بد من توافرها في من يشغل هذا المنصب، وقواعد السلوك القضائي رسمت ملامح شخصية القاضي وسلوكه حفاظا على هيبة القضاء، غير أن عدم التقيد بهذه الشروط وتلك القواعد لدى تعيين القضاة وممارستهم لعملهم، أدى إلى أن يشغل هذا المنصب من ليس أهلا له من ناحية؛ وأتاح لكثيرين فرصة التطاول على القضاء والتدخل في شئونه من ناحية أخرى.
وحتى تعود للقضاء هيبته ويقوم بدوره الذي رسمه له القانون، فإن حوكمة القضاء تستلزم في البداية تحديد مشكلات القضاء وسبل إصلاحه، ومن ثم المبادرة لخطوات عملية في الإصلاح، الأمر الذي أرى أنه يكون متاحا إذا توافرت الإرادة السياسية لذلك.
- المشكلة الرئيسة في القضاء نشأت من مسألة الترفيع التلقائي بناء على أن قانون السلطة القضائية الحالي اعتمد الأقدمية للترقية وليس الكفاءة. ولذلك تم ترفيع عدد من القضاة إلى محاكم البداية ومحكمتي الاستئناف والنقض دون أن يكونوا مؤهلين لذلك مهنيا. وإذا استمر الترفيع التلقائي في الجهاز القضائي على هذا النحو فإنه سوف يؤدي إلى القضاء على القضاء.
- المشكلة الثانية في القضاء هي عدم وجود معايير واضحة لاختيار القضاة. فالقاضي كالزجاج إذا أصيب بشرخ في سمعته أو سلوكه لا يمكن إصلاحه. والقاضي الخبير هو القاضي الذي يتمتع بقوة الشخصية وقوة المعلومة. والخبرة لا تكتسب بمجرد مرور الأيام فقط؛ فقد تكون خبرة يوم واحد تكررت سنوات وليس تراكما مكتسبا من التجربة والمعرفة المتجددة؛ وهو ما نجده فعلا في بعض القضاة.
- المشكلة الثالثة في نظام الدرجات. فالقانون الحالي رتب القضاة لأغراض الترقية إلى: قاضي صلح – قاضي بداية – رئيس محكمة بداية – قاضي استئناف – رئيس محكمة استئناف – قاضي محكمة عليا – نائب رئيس المحكمة العليا. وهذا الترتيب أدى إلى أن القاضي الذي يمضي ثلاث سنوات في درجته الأدنى يبدأ في المطالبة بالترفيع إلى الدرجة الأعلى، لذلك كانت مشكلة مجلس القضاء الأعلى عندما نسب عددا كبيرا من قضاة البداية إلى درجة رئيس محكمة بداية رغم أن عدد محاكم البداية هو ثمانية فقط. وإذا استمر الحال على ما هو عليه سنجد يوما أن عددا كبيرا من القضاة وصل إلى المحكمة العليا دون تأهيل ودون حاجة.
- المشكلة الرابعة هي جدول الرواتب الحالي الملحق بقانون السلطة القضائية، فهذا الجدول لم يعد كافيا. ولا يرد القول إن رواتب القضاة أعلى من رواتب باقي العاملين في الدولة، فراتب القاضي لا يقارن براتب أي موظف عادي بل بمعيارين: الأول محلي وهو دخل المحامي الناجح مهنيا المناظر للقاضي في الخبرة. والثاني رواتب وامتيازات القضاة في الأردن رغم الفارق الواضح في مستوى المعيشة بين الدولتين. لذلك نجد أن جدول الرواتب عندنا طارد للخبرات بحيث أن القاضي الجيد يترك القضاء للعمل في المحاماة، في حين أن جدول الرواتب يجب أن يكون جاذبا للخبرات وليس طاردا لها. كما لا يرد القول بأن أي زيادة في رواتب القضاة تعد عبئا على ميزانية الدولة، لأن وجود قضاء قوي نزيه وفاعل هو ضرورة أساسية لبناء الدولة بصرف النظر عن الجانب المالي؛ ولذلك سأل تشرشل رئيس الوزراء البريطاني وهو يرى ما آل إليه حال بريطانيا في أعقاب الحرب العالمية: كيف القضاء؟ وعندما قيل له القضاء بخير، قال عبارته الشهيرة (ما دام القضاء بخير فبريطانيا بخير). ولأن القضاء يعد رافدا لميزانية الدولة من خلال الرسوم التي يجبيها، علما بأن الرسوم كانت قبل عام 1967 3%من قيمة الدعوى بحد أقصى 1200 دينار، وتم تخفيضها مع دخول السلطة إلى 1% بحد أقصى 500 دينار. لذلك يمكن إعادة النظر في جدول الرسوم تزامنا مع زيادة رواتب القضاة وتطبيق نظام إدارة الدعوى بما يحقق سرعة الفصل في القضايا.
- المشكلة الخامسة هي بطء الفصل في الدعاوى. فالدعوى تستغرق سنوات طويلة للفصل فيها؛ علما بأن العدالة البطيئة ظلم. وهذه المشكلة هي التي تهم المواطن العادي والتي تثير الجدل في الشارع دون بحث في أسبابها التي تعود من جهة إلى عدم تدريب القضاة الجدد والقدامى على كيفية إدارة الدعوى وهو موضوع حديث على المستوى العالمي. وكذلك قلة عدد القضاة وكثرة عدد القضايا التي ينظرها القاضي في اليوم من جهة أخرى. فلو قارنا بين عدد السكان في الأردن وفلسطين وعدد القضاة في كل من البلدين نجد أن عدد القضاة في الأردن تجاوز الألف ويطلبون المزيد، بينما عندنا هو 180 قاض فقط.
- المشكلة السادسة هي عدم وجود تقييم علمي وموضوعي للقضاة والقضاء. فمن ينتقد القضاء ويزعم أنه فاسد وبحاجة إلى إصلاح يستعمل عبارات عامة وشاملة لجميع من هم في الجهاز القضائي، ويتخذ من خطأ أو هفوة من قاض حديث التعيين لقلة خبرته أو ضغط العمل عليه، أو سلوك قاض في محكمة بداية أو استئناف، سلاحا يرمي به القضاء كله. ومن يدافع عن القضاء ويدعي أنه بخير يستعمل عبارات عامة وغير محددة أيضا. في حين أن النظرة الموضوعية للقضاة تبين أن عدد القضاة الذين ليسو أهلا لتولي منصة القضاء إما بسبب شبهة في السلوك أو ضعف في الأداء هو عدد قليل، بينما نجد أن العدد الأكبر من القضاة يبذلون جهدا مضاعفا في العمل ويسهرون لساعات متأخرة من الليل لإنجاز عملهم وإعداد الأحكام وهم في مستوى مقبول ولا ينقصهم سوى التدريب على إدارة الدعوى لسرعة الفصل في الدعاوى. فضلا عن أن عددا قليلا أيضا أثبت تميزا وكفاءة عالية لكنه لم يجد التقدير اللائق مما قد يؤثر في رغبته على الاستمرار في العطاء والتفكير في ترك القضاء؛ بل إن عددا منهم قد ترك القضاء بالفعل.
كيفية إصلاح القضاء
- لا يرد القول بأن يتم إصلاح القضاء من قبل هيئة أو لجنة من خارج الجهاز القضائي لأسباب عديدة لا مجال لسردها.
- كما أن إصلاح القضاء من داخل الجهاز القضائي، أي من قبل مجلس القضاء الأعلى لم يكن ممكنا في السابق؛ لأن من ليس صالحا بذاته لا يمكن أن يصلح غيره. كما أنه في تشكيلته الحالية غير ممكن؛ لأنه تعرض في الفترة السابقة إلى تذبذبات أفقدته هيبته؛ ولما يدور في المحكمة العليا من خلافات تنعكس على أداء المجلس وتشل قدرته على اتخاذ قرارات حاسمة بخصوص القضاة؛ وخاصة المحكمة العليا والاستئناف.
- لذلك إذا لم يرتفع أعضاء مجلس القضاء الأعلى الحالي إلى مستوى المسئولية، ويتناسوا خلافاتهم الشخصية ويقدموا المصلحة العامة؛ باتخاذ القرارات الفورية والحاسمة لإصلاح الجهاز القضائي، فإنه حتى يمكن إصلاح القضاء لا بد من إرادة سياسية تتمثل فيما يلي:
- مبادرة الرئيس باستدعاء قضاة المحكمة العليا والاستئناف الذين يشوب ماضيهم المهني وسلوكهم شبهات من جهة؛ أو ضعف وعدم خبرة مهنية من جهة أخرى، واحدا تلو الآخر على انفراد، والطلب منهم بهدوء وحزم تقديم طلبات لتقاعدهم أو استقالاتهم أو حتى نقلهم إلى دوائر أخرى إن كان ذلك مفيدا.
- إصدار قرار بقانون بتعديل عدد من مواد قانون السلطة القضائية التي تتعلق بمسألتي الترقية والدرجات والتعيين لمدة تحت التجربة، وتبني ما هو معمول به في الأردن بخصوص درجات القضاة ورواتبهم وامتيازاتهم الأخرى.
- تعيين عدد من ذوي الخبرة والكفاءة في القضاء بدرجاته كافة؛ بعد إعدادهم بصورة جيدة على إدارة الدعوى.
- إعادة تشكيل مجلس القضاء الأعلى في ضوء الخطوات السابقة، ليتولى متابعة خطوات الإصلاح في محاكم البداية والصلح وإعداد برامج التأهيل على أساس علمي مدروس.
- معالجة الترهل الإداري والأداء المهني في دوائر المحاكم، وخاصة المحضرين والتنفيذ.
- إعادة تفعيل المعهد القضائي لتدريب عدد من المتميزين من خريجي كليات الحقوق؛ لشغل منصب القضاء في المستقبل، مع تخصيص قسم في المعهد لتدريب المحامين أيضا؛ لتدني مستوى مهنة المحاماة نتيجة ضعف التدريب بصورته الحالية، بحيث يكون المعهد لتدريب القضاة والمحامين معا، ولكن لكل برنامجه المناسب لطبيعة عمله. وتعديل قانون نقابة المحامين بحيث لا يجاز لممارسة مهنة المحاماة إلا من قضى سنة في المعهد القضائي كجزء من التدريب العملي، واجتاز الاختبارات المطلوبة بنجاح.