المطلب الثاني
الـطـلـبـات الـمـقـابـلـة
نبين في هذا المطلب تعريف الطلب المقابل وخصائصه، ومزايا الطلبات المقابلة وعيوبها، وطبيعة الطلب المقابل، وشروط قبوله، ثم الطلبات المقابلة في قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية في فروع خمسة.
الفرع الأول
تعريف الطلب المقابل وخصائصه
يقتصر دور المدعى عليه عادة في الرد على طلبات المدعي دون أن يشارك في تحديد النزاع أو تطوره بتقديم طلبات عارضة، ولكن التزام المدعى عليه موقف الدفاع في بعض الأحيان قد يعرضه لضرر يلحقه؛ أو منفعة تفوت عليه.
لذلك عمل المشرع على تحقيق التوازن بين أطراف الخصومة المدنية؛ بمنح المدعى عليه الحق في إبداء ما يعن له من طلبات ودفوع، وعلى ذلك قد يلجأ المدعى عليه إلى تطبيق القاعدة الشائعة بأن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم، ويتقدم بطلب مقابل يخرج به من نطاق الدعوى التي قدمها المدعي؛ ويثير به وجود دعوى أخرى في مواجهة المدعي؛ لذلك يسمى الطلب المقابل بدعوى المدعى عليه أو بالادعاء المضاد، وبه يتسع نطلق الخصومة من حيث الموضوع؛ مع بقاء أطرافها دون تغيير، كما تؤدي إلى تغيير الصفات الإجرائية للخصوم، وهو بذلك يختلف عن الدفع الذي يعد وسيلة دفاعية بحتة يقصد منه المدعى عليه مجرد رفض طلبات المدعي أو تأخير الفصل فيها.
ومن المستقر عليه فقها وقضاء تعريف الطلب المقابل بأنه الطلب العارض المقدم من المدعى عليه في مواجهة المدعي؛ للحصول على ميزة أخرى أكثر من مجرد رفض الطلب الأصلي.
ويتميز الطلب المقابل بازدواج وظيفته، لأنه يعد وسيلة دفاع في يد المدعى عليه في مواجهة الطلب الأصلي، كما يستخدم كوسيلة هجوم كالطلب الأصلي؛ ويهدف إلى إيجاد مركز قانوني جديد.
ويرى البعض أن حق المدعى عليه في إبداء الطلب المقابل يعد انعكاسا لحق الدعوى الذي يمنح لكل شخص بقصد الحصول على الحماية القضائية لمواجهة الاعتداء الواقع عليه. وأنه بتقديم الطلب المقابل توجد دعويان متقابلتان؛ ولا يؤثر انقضاء إحداهما على الأخرى، لأن الطلب المقابل يوجد خصومة جديدة تختلف عن الخصومة الأصلية. إلا أن ذلك لا يمحو الفوارق بين الطلبين؛ نظرا لما يتمتع به الطلب المقابل من خصائص تميزه عن الطلب الأصلي، وأهم هذه الخصائص هي:
- الطلب المقابل طلب عارض يقدم أثناء سير الخصومة الأصلية، ويمكن أن يكون محلا لخصومة مستقلة ومتميزة عن الخصومة .
- لا يهدف إلى مجرد رفض الطلب الأصلي والحكم على المدعي بمصاريف الخصومة، بل يهدف به المدعى عليه إلى الحصول على ميزة أخرى مستقلة.
- يجب أن يكون مؤسسا على تصرف أو واقعة مثارة في لائحة الدعوى الأصلية، أو بمعنى آخر؛ يجب أن يكون هناك ارتباط بين الطلب المقابل والطلب الأصلي بالمفهوم الذي سنوضحه عند كلامنا عن شروط قبول الطلب المقابل.
الفرع الثاني
مـزايـا وعـيـوب الـطلبـات المقـابلـة
أولا: مزايا الطلبات المقابلة.
- يمكن للمدعى عليه أن يطرح ادعاءاته على القضاء دون اضطراره للجوء إلى الطريق العادي لإقامة الدعوى؛ مما يحول دون كثرة الخصومات؛ ويقلل عدد الدعاوى.
- يؤدي إلى سرعة الفصل في الدعاوى المرتبطة؛ وتوفير الوقت؛ وتقليل المصاريف، لأن المحكمة سوف تنظر أكثر من دعوى في وقت واحد.
- يكون لدى المحكمة القدرة على النظرة الشمولية للنزاع والإلمام بالمراكز القانونية للخصوم للوقوف على الادعاءات المتبادلة بين الأطراف، مما يمكنها من إصدار أحكام أكثر عدالة؛ وأكثر اتفاقا مع المراكز الواقعية للخصوم.
- قيام محكمة واحدة بنظر الدعاوى المرتبطة؛ يعد إعمالا لمبدأ تركيز الخصومة؛ ويحول دون صدور أحكام متعارضة؛ أو أحكام يصعب التوفيق بينها.
- الطلب المقابل بالمقاصة القضائية يقي المدعى عليه من خطر إعسار المدعي، فإذا اضطر لإقامة دعوى أصلية بعد الفصل في الدعوى الأولى، يمكن أن تحكم المحكمة لصالحه؛ إلا أنه لا يستطيع أن يجني ثمرة الحكم لإعسار المدعي.
ثانيا: عيوب الطلبات المقابلة.
- التوسع في قبول الطلب المقابل دون ضوابط أو قيود؛ يؤدي إلى إشاعة الفوضى في إدارة العدالة.
- الطلب المقابل يؤدي إلى تعقيد القضية وتشابك إجراءات الخصومة؛ مما يؤدي إلى تأخير الفصل في الدعوى الأصلية.
- لا يستطيع القاضي في ظل الطلب المقابل؛ تسيير الخصومة وتوجيه الدعوى وهو مطمئن إلى ثبات مصالحها ثباتا يمكن من الفصل فيها، ولا أن يمنع من أن تصبح الخصومة صراعا مائعا؛ يطول أجله ولا يسهل فضّه؛ وتمضي معه الخصومة في طريق لا نهاية لها.
- قد يستخدم المدعى عليه الطلب المقابل لمخالفة قواعد الاختصاص؛ أو للنيل من مبدأ التقاضي على درجتين.
وهذه العيوب لا يمكن تلافيها؛ ولكن يمكن الإقلال منها بقدر الإمكان، بوضع شروط لقبول الطلب المقابل؛ ومنح المحكمة سلطة تقديرية واسعة في قبول الطلب؛ وتشديد الجزاء على المدعى عليه إذا تعمد بالطلب المقابل عرقلة سير الدعوى.
ومع كل هذه العيوب المترتبة على قبول الطلب المقابل؛ فإنه لا يكاد يخلو تشريع من النص عليه، وتتفاوت هذه التشريعات من حيث نطاق القبول؛واختلاف الشروط المطلوبة لقبوله.
الفرع الثالث
طـبيـعـة الـطلـب الـمـقابـل:
هل يعد الطلب المقابل دفعا موضوعيا؛ أم مطالبة قضائية؛ أم خليطا منهما؟
الدفع الموضوعي – حسب السائد في الفقه- هو الذي يوجه إلى ذات الحق المدعى به، أو هو الذي يتقدم به المدعى عليه ضد دعوى المدعي لانتفاء الأساس القانوني لها لانقضاء الحق المطالب به.
أما المطالبة القضائية، فهي العمل الإجرائي الذي يقوم به الشخص إعمالا لحقه في الالتجاء إلى القضاء؛ أو حقه في الدعوى حسب الأحوال.
يرى الرأي السائد أن للطلب المقابل طبيعة مختلطة، فهو يقترب من الدفع الموضوعي في أنه يهدف إلى رفض الطلب الأصلي وإبعاده. ولكنه يهدف أيضا إلى استصدار تقرير قضائي لصالح المدعى عليه ويقترب بذلك من المطالبة القضائية.
ونحن نرى أن الطلب المقابل ليس له سوى طبيعة واحدة؛ هي طبيعة الطلب القضائي، نظرا لأنه يتوافر فيه عناصر الطلب القضائي؛ من محل وسبب وأشخاص. فمحله مستقل ومتميز عن محل الطلب الأصلي، وسببه يختلف عن السبب في الطلب الأصلي؛ ولو كانت الوقائع السببية في كل منهما مشتركة في بعض الأحيان، واتحاد الخصوم في الطلبين الأصلي والمقابل لا ينفي عن الطلب المقابل طبيعته كطلب قضائي. فالمدعى عليه يمكن أن يسلك الطريق العادي لإقامة الدعوى إذا رفض طلبه المقابل، في حين أنه لا يستطيع هذا الطريق إذا رفض دفعه الموضوعي.
الفرع الرابع
شـروط قـبـول الـطلـب الـمقـابـل:
ينبغي لقبول الطلب المقابل توافر شرطين :
الأول: أن يكون صادرا من المدعى عليه الأصلي.
والثاني: أن تكون هناك علاقة ارتباط بينه وبين الطلب الأصلي.
الشرط الأول : أن يكون الطلب المقابل صادرا من المدعى عليه الأصلي.
المدعى عليه – في التعريف السائد في الفقه – هو من يقدم في مواجهته الطلب القضائي، ولكن لا يكفي – طبقا لرأي محكمة النقض الفرنسية – أن يوجه الطلب القضائي إلى شخص كي يصبح مدعى عليه، بل يجب أن يكون له مصلحة شخصية في الخصومة.
وفي حالة تعدد المدعى عليهم يجوز لأي منهم أن يتقدم بطلب مقابل في مواجهة المدعي . كما أنه في حالة تعدد المدعين يجوز للمدعى عليه أن يتقدم بطلب مقابل في مواجهة أي منهم أو في مواجهتهم جميعا .
وفي حالة التدخل الاختصامي يجوز لكل من المدعي والمدعى عليه في الخصومة الأصلية أن يتقدم بطلب مقابل في مواجهة المتدخل اختصاميا الذي أصبح يحتل مركز المدعي في مواجهة المدعي الأصلي الذي أصبح مدعى عليه مع المدعى عليه الأصلي .
وفي حال تقديم المدعى عليه طلبا مقابلا؛ فإنه يصبح مدعيا؛ ويصبح المدعي الأصلي مدعى عليه، ولذلك يجيز فقه المرافعات الحديث له أن يقدم طلبا مقابلا بصفته مدعى عليه في الدعوى الفرعية ، عملا بحق الدفاع الممنوح لكل من المدعي والمدعى عليه في الدعوى المدنية على قدم المساواة، ومبدأ المساواة بين الخصوم.
الشرط الثاني : أن يكون هناك ارتباط بين الطلب المقابل والطلب الأصلي .
أي أن يكون الطلب المقابل مؤسسا على تصرف أو واقعة مثارة في لائحة الدعوى الأصلية. والارتباط ينصرف إلى كل طلب له علاقة أصيلة بالطلب الأصلي مما يوجب التصدي لهما معا بحيث إذا انفصلا وصدر حكم نهائي في أحدهما كانت له حجية على نفس الخصوم عند نظر الطلب الآخر. مثال ذلك طلب صحة العقد وطلب فسخه، إذ يتعين التصدي للطلبين معا بحيث إذا قضي بصحة العقد قضي في ذات الوقت الحكم برفض طلب الفسخ أو العكس. وقد يقيم كل من المتعاقدين دعوى بفسخ العقد، وحينئذ يتعين التصدي للدعويين معا حتى لا يقضى في إحداها بالفسخ والأخرى بالرفض.
فالمبرر لتقديم الطلب المقابل بغير الطريق العادي لإقامة الدعوى وقبوله؛ هو وجود ارتباط بينه وبين الطلب الأصلي، وهذا الارتباط بين الطلبين مطلوب على وجه العموم، إلا أنه يستثنى من هذا الشرط حالتان يقبل فيهما الطلب المقابل بدون وجود علاقة ارتباط :
الحالة الأولى : إذا كان الغرض من الطلب المقابل المطالبة بإعمال المقاصة القضائية .
والحالة الثانية : إذا استخدم الطلب المقابل كوسيلة دفاع ضد الدعوى الأصلية . بأن كان الطلب المقابل يرمي إلى استبعاد كلي لادعاء المدعي أو إلى مجرد تعديل الحكم القضائي لصالح المدعى عليه .
ومثال ذلك أن يكون موضوع الطلب الأصلي تنفيذ عقد ، فيكون الطلب المقابل هو بطلان ذلك العقد . أو أن يكون الطلب الأصلي هو ملكية أرض ، فيكون موضوع الطلب المقابل حق ارتفاق بالمرور ففي هذين المثلين للطلب المقابل وظيفة دفاعية بحتة .
وقد اختلف الفقه والقضاء حول معيار الارتباط بين الطلب المقابل والطلب الأصلي، ولكن الاتجاه الغالب يرى وجود علاقة ارتباط بين الطلبين إذا استند الطلب المقابل على ذات الوقائع التي يقوم عليها الادعاء الأصلي، ويتم ذلك بالرجوع إلى أصل النزاع.
أما إذا انتفت علاقة الارتباط بين الطلب المقابل والطلب الأصلي؛ بأن كان الطلب المقابل مؤسسا على وقائع أجنبية عن وقائع الطلب الأصلي، وكان من شأنه تأخير الفصل في الطلب الأصلي، تحكم المحكمة من تلقاء نفسها بعدم قبوله، وللمحكمة سلطة تقدير وجود أو عدم وجود الارتباط؛ دون أن تخضع في ذلك لرقابة محكمة النقض، ودون أن تلتزم ببيان عناصر الارتباط التي اعتمدتها؛ لأن القانون لم يعرف الارتباط.