المبحث الثاني
تكوين العقد الإلكتروني
التعبير عن الإرادة في العقد الإلكتروني :
أجاز القانون النمطي استخدام رسائل البيانات في التعبير عن الإرادة في تكوين العقود ، والمقصود برسائل البيانات وفق المادة 2/أ من هذا القانون ” المعلومات التي يتم إنشاؤها أو إرسالها أو استلامها أو تخزينها بوسائل الكترونية أو ضوئية أو بوسائل مشابهة ؛ بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر تبادل البيانات الإلكترونية أو البريد الإلكتروني أو البرق أو التلكس “. وقد نقل المشروع الفلسطيني هذا التعريف في المادة الأولى منه .
ويتبين من ذلك أنه يجوز التعبير عن الإرادة عن طريق إرسال رسائل بيانات إلكترونية من جهاز حاسوب إلى آخر ؛ أو عن طريق رسالة تلكس أو فاكس ؛ أو غير ذلك من الوسائل التي قد يبتكرها العلم الحديث في المستقبل . ومع ذلك ترك هذا القانون للأفراد حرية الاتفاق على غير ذلك ، كأن يشترط الأفراد تعزيز رسالة البيانات هذه بأخرى مكتوبة خلال فترة زمنية معينة ؛ لترتيب الأثر القانوني المشار إليه في رسالة البيانات مثلا ، كما أبقى المجال مفتوحا أيضا للتشريعات الوطنية لاستثناء بعض العقود أو أجزاء منها من دائرة انطباقه .
وبالنسبة للتشريعات الوطنية نصت المادة 5 من مشروع قانون المبادلات والتجارة الإلكترونية الفلسطيني على أنه ” ينطبق على العقود الإلكترونية ما يطبق على العقود الكتابية من حيث التعبير عن الإرادة وأثرها القانوني وصحتها وقابليتها للتنفيذ فيما لا يتعارض وأحكام هذا القانون. (1)
ويتبين من هذا النص أن التعبير عن الإرادة عن طريق الحاسوب يندرج تحت التعبير بالكتابة ؛ ولكنها كتابة من نوع خاص ، فهي ليست كتابة على الورق وإنما كتابة إلكترونية يمكن قراءتها من قبل الآلة ومن قبل الإنسان بعد تحويلها ، وهو تعبير صريح لأنه واضح يدل على الإرادة الحقيقية للمتعاقدين .
النيابة في التعبير عن الإرادة بواسطة الإنترنت :
ترك القانون النمطي لليونسترال أحكام النيابة وشروطها إلى القواعد العامة في القوانين المدنية ؛ إلا أنه أجاز في المادة 13 منه التعبير عن الإرادة بالنيابة ، واعتبر أن الرسالة المعبرة عن الإرادة صادرة عن الأصيل في حالتين :
- إذا أرسلت هذه الرسالة من قبل شخص له صلاحية التصرف نيابة عن الأصيل ( المنشئ) فيما يتعلق برسالة البيانات .
- إذا تم التعبير عن الإرادة بواسطة نظام معلومات مبرمج من قبل الأصيل (المنشئ) ، أو نيابة عنه ، وذلك للعمل تلقائيا . حيث سيقوم هذا البرنامج بالبحث له عن عرض معين ؛ ومن ثم وحسب تطورها سيعبر عن إرادته في تعاقد معين ، إذ يكون هو من عبء فيها بياناته الشخصية وكل متطلبات الثقة التي يحرص عليها الطرف الآخر ، وغالبا ما تعمل هذه البرامج من خلال وسيط الكتروني . وأوضح مثال لذلك البرامج المعدة للعمل في البورصات العالمية ؛ فهي تشتري وتبيع أسهم من تلقاء ذاتها ؛ ولكنها مبرمجة لأن تقوم بمثل هذا العمل فلا تزيد ولا تنقص وليس لها قرار ، إلا أنها تبحث في الشبكة فإن وجدت وفق ما هي مبرمجة عليه فإنها تفحص ؛ وإلا فإنها تبقى ساكنة .
وقد نقل المشروع الفلسطيني حكم هذه المادة في المادة 14 منه فنص على أنه ” في العلاقة بين المرسل والمرسل إليه تعتبر رسالة البيانات أنها صادرة عن المرسل إذا أرسلت : أ – من شخص له صلاحية التصرف نيابة عن المرسل فيما يتعلق برسالة البيانات . ب – من نظام معلومات مبرمج على يد المرسل أو نيابة عنه للعمل تلقائيا”.
الإيجاب عبر الإنترنت :
تحدثت القوانين التي نظمت التعاقد الإلكتروني عن شكل الإيجاب ؛ ولكنها لم تحدد شروطه ، لذلك فإن شروط الإيجاب وسقوطه وتطبيقاته بواسطة شبكة الإنترنت يطبق عليها القواعد العامة في الإيجاب وفقا للقوانين الوطنية وقواعدها الموضوعية .
ولا يختلف الإيجاب من خلال الإنترنت كثيرا عن الإيجاب التقليدي ؛ فالإيجاب هو ذاته وبذات الشروط ؛ ولكن وسيلة التعبير عنه تختلف . فالأصل وفق نص المادة 11 من القانون النمطي أن يتمتع الإيجاب الإلكتروني بذات الصفات التي يتمتع بها الإيجاب التقليدي طالما لم يتفق أطراف العلاقة القانونية على غير ذلك .
وقد عرف التوجيه الأوروبي في شأن حماية المستهلك الإيجاب الإلكتروني بأنه ” كل اتصال عن بعد يتضمن كافة العناصر اللازمة لتمكين المرسل إليه الإيجاب من أن يقبل التعاقد مباشرة ؛ ويستبعد من هذا النطاق مجرد الإعلان “. (1)
ويشترط في الإيجاب الإلكتروني أن يكون جازما ومحددا وباتا لا رجعة فيه كالإيجاب التقليدي ، كأن يصف البضاعة وصفا دقيقا ومزودا بصور مجسمة ثلاثية الأبعاد .
ويمكن أن يتخذ الإيجاب بواسطة الإنترنت أحد الصور التالية :
- التعبير عن الإرادة بواسطة شبكة الموقع Web وتسمى بالإنجليزية ( World wide web) ، ويطلق عليه اختصارا ( www ). والغالب أن يكون الإيجاب خلالها إيجابا عاما موجها إلى كل من يطلع على الموقع ، لذلك قد يبدي عدد كبير قبولهم للتعاقد ؛ أو قد يكون من أبدى رغبته في التعاقد عديم الأهلية أو ناقصها ؛ أو قد لا يكفي المخزون من البضائع لتغطية التعاقد مع جميع من أبدوا رغبتهم في هذا التعاقد . وتلافيا لهذه المشكلات ينصح بعض الخبراء من يصدر عنه التعبير أن ينص في تعبيره عن إرادته على أن العرض الصادر منه ليس سوى دعوة للتعاقد أو التفاوض ؛ كورود عبارة ” دون أي التزام ” أو ” لا يؤلف العرض وثيقة أو مستندا للتعاقد” ، كما تشترط بعض العقود ما يسمى نطاق التغطية ؛ بمعنى تحديد النطاق الجغرافي الذي يغطيه الإيجاب ” العرض لا يشمل الردود الواردة من خارج دولة ما ” . وقد يحتفظ المعلن بحقه في تعديل الثمن تبعا لتغير الأسعار في السوق أو في البورصة ، أو بقيد نفاذ المخزون ، أو يحتفظ لنفسه بإمكانية تعديل العرض ؛ أو حقه في رفض البيع لاحقا دون إبداء الأسباب .
- التعبير عن الإرادة بواسطة البريد الإلكتروني ( E-mail ) . وفي هذه الحالة إما أن يرسل البائع الإيجاب إلى شخص محدد ؛ فردا أو مؤسسة ، بحيث يصل إلى البريد الإلكتروني المرسل إليه ، فنكون أمام إيجاب كالإيجاب الذي يتم عبر البريد العادي ، فيعلم به الشخص عندما يفتح صندوق بريده الإلكتروني ، وفي هذه اللحظة تبدأ فعالية الإيجاب بالنسبة له . وإما أن يرسل إلى عدد غير محدود من الأشخاص ؛ كما هو معمول به على الشبكة ؛ حيث يتفق مع شركة عالمية للبريد الإلكتروني كشركة ياهو Yahoo بأن ترسل إعلانه إلى كل الأشخاص الذين لديهم صناديق بريد إلكترونية في شركة ياهو ؛ أو أن ترسل هذا الإعلان إلى كل شخص في منطقة معينة ( الولايات المتحدة مثلا) له صندوق بريد إلكتروني في شركة ياهو .
- التعبير عن الإرادة بطريق الكلام والمشاهدة عبر غرف المحادثة ( Chatting Room ) ، إذا كان الطرفان يملك كل منهما ميكرفونا ؛ وكميرا فيديو ؛ والبرنامج الخاص بها في الحاسوب بحيث يستطيع مشاهدة وسماع من يتكلم معه مباشرة ، حيث إنه مع تطور وسائل الاتصال الحديثة أصبح من الممكن للشخص مشاهدة من يتحدث أو يتفاوض معه لإبرام العقد سواء من خلال شبكة الإنترنت ؛ أو الهاتف الأرضي أو المحمول . وفي هذه الحالة نطبق القواعد العامة التقليدية للتعاقد بواسطة الهاتف .
ويعتبر رفضا للإيجاب الإلكتروني أن يقوم الموجه إليه الإيجاب بإغلاق جهاز الكمبيوتر طواعية واختيارا ؛ أو بالانتقال إلى موقع جديد غير موقع الموجب ؛ أو بإرسال رسالة إلكترونية تفيد الرفض في حالة التعاقد بواسطة البريد الإلكتروني . (1)
القبول عبر الإنترنت :
يخضع القبول الإلكتروني لذات القواعد والأحكام التي تنظم القبول التقليدي ؛ ولا يختلف عن القبول التقليدي سوى أنه يتم عبر وسائط إلكترونية من خلال شبكة الإنترنت ، فهو قبول عن بعد .
ولا يشترط أن يصدر القبول الإلكتروني في شكل خاص ؛ ما لم يكن الموجب قد اشترط أن يصدر القبول في شكل معين ، كما لو اشترط البائع أن يكون القبول عن طريق البريد الإلكتروني ؛ أو عن طريق ملء الاستمارة الإلكترونية المعدة سلفا والمبينة على الموقع .
طرق التعبير عن القبول :
- الكتابة بما يفيد الموافقة .
- استخدام التوقيع الإلكتروني عبر البريد الإلكتروني .
- اللفظ من خلال غرفة المحادثة Chatting Room .
- التنزيل عن بعد من خلال تنزيل البرنامج أو المنتج أو السلعة عبر الإنترنت Down Load وتحميلها على الكمبيوتر الخاص بالقابل .
- النقر بالموافقة على العلامة الخاصة بذلك ” الأيقونة Icon حيث نجد عبارة ” أنا موافق I agree أو OK ” .
- بتنفيذ العقد الذي اقترح الموجب إبرامه ، كالدفع مثلا عن طريق بطاقات الائتمان بإعطاء الموجب رقم البطاقة السري ؛ دون أن يعلن صراحة قبوله ، فيتم بذلك القبول ضمنيا .
- وقد يتخذ الموجب بعض الإجراءات اللاحقة لصدور القبول بقصد تأكيد القبول وجعله في صورة أكثر فاعلية ؛ بمنح القابل فرصة للتروي والتدبر والتأكد من رغبته في القبول وإبرام العقد ، كالإجابة على بعض الأسئلة التي توجه إلى القابل ؛ مثل تحديد محل إقامته الذي يتعين إرسال المنتج إليه ؛ أو كتابة بعض البيانات الخاصة التي تظهر على شاشة الحاسب الآلي كرقم ونوع بطاقته الائتمانية .
وعلى ذلك قد يكون القبول صريحا ، كأن يبعث القابل برسالة عبر البريد الإلكتروني مثلا فيها قبول صريح لعرض الموجب ، أو ينقر على أيقونة القبول إذا كان ذلك من قبيل التعبير المألوف في هذا النوع من العقود .
وقد يكون القبول ضمنيا ، وذلك بقيام القابل بعمل أو تصرف يفيد الموافقة على القبول ، كالنقر على أيقونة القبول إذا كان ذلك لا يعد تعبيرا مألوفا في هذا النوع من العقود .
وإذا بعث الموجب له إلى الموجب عبر البريد الإلكتروني قبولا مشروطا بتعديل في الثمن ، فإن ذلك يعتبر رفضا يتضمن إيجابا جديدا ؛ وذلك لعدم مطابقة هذا القبول للإيجاب .
ولا تتطلب العقود الإلكترونية – باعتبارها من العقود الرضائية – شكلا معينا للقبول، بحيث يمكن ابتكار وسائل معينة للتعبير عن القبول ، مثل استخدام وثيقة أمر بالشراء يتعين على المستهلك أن يحررها على جهازه حتى تنتقل إلى موقع البائع ؛ بحيث يكون القبول مؤكدا وجازما ، أو إرسال كلمة المرور إلى التاجر ، أو عن طريق مباشرة إجراءات الدفع الإلكتروني ، أو النقر بواسطة الفأرة على أيقونة القبول .
غير أن التعبير عن القبول بواسطة النقر بالفأرة على أيقونة القبول يثير مشكلة إثبات ذلك ، حيث قد يكون من قام بعملية النقر شخص آخر ، أو أن عملية النقر حدثت سهوا . لذلك يلزم توفير ما من شأنه أن يثبت عملية القبول ؛ مثل استدراج المشتري قبل عملية النقر إلى الإجابة عن عدة أسئلة توفر له التفكير الواعي عند قبول العرض .(1)
كما أن النقر بالفأرة على الأيقونة يعد واقعة مادية وليس تصرفا قانونيا ، لذلك قد يتم النقر خطأ أو سهوا ، وبالتالي يعطى من قام بعملية النقر فرصة إثبات هذا الخطأ أو السهو بكل الطرق ، استندا إلى جواز إثبات الوقائع القانونية بكافة طرق الإثبات ، وذلك حماية للمستهلك التي تحرص عليها غالبية القوانين المعاصرة .
وبالنسبة لتحديد لحظة القبول ، نجد أن القانون النمطي قد أخذ بنظرية تسلم القبول ؛ ولكنه في الوقت ذاته ترك للقوانين الوطنية تبني نظرية معينة من نظريات القبول . كما أخذت اتفاقية البيع الدولي للبضائع صراحة بنظرية تسلم القبول لتحديد وقت الانعقاد . وكذلك أخذ بهذه النظرية كل من قانون المعاملات الإلكترونية الأردني في المادة 17 منه ( على خلاف المادة 151 من القانون المدني التي أخذت بإعلان القبول ) ، ومشروع القانون الفلسطيني متأثرا بالقانون النمطي . وعلى ذلك فإن العقد ينعقد بمجرد دخول الرسالة الإلكترونية التي تحمل القبول بريد الموجب ؛ بغض النظر عن كون الموجب اطلع على الرسالة أم لا ، فإدراج الموجب لعنوان بريده الإلكتروني يعد قرينة على اطلاعه على الرسالة ، فإن لم يطع عليها يتحمل تبعة إهماله . (1)
(1)(1) نصت المادة 13 من قانون المعاملات الإلكترونية الأردني على أنه ” تعتبر رسالة المعلومات وسيلة من وسائل التعبير عن الإرادة المقبولة قانونا لإبداء الإيجاب أو القبول بقصد إنشاء التزام تعاقدي “. كما نصت المادة 13/1 من القانون الإماراتي على أنه ” لأغراض التعاقد يجوز التعبير عن الإيجاب والقبول جزئيا أو كليا بواسطة المراسلة الإلكترونية “.
(1)(1) د. خالد ممدوح إبراهيم ، لوجستيات التجارة الإلكترونية ، المرجع السابق ، صفحة 226 .
(1)(1) المرجع السابق ، صفحة 227 .
(1)(1) أسامة أبو الحسن مجاهد ، صفحة 85 .
(1)(1) بينما في نظرية إعلان القبول ، العبرة باللحظة التي يكتب فيها القابل رسالة إلكترونية تتضمن قبوله ، ويمكن أن تكون كذلك اللحظة التي يضغط فيها على المفتاح المخصص للقبول . وهذه النظرية منتقدة لأن تحرير الرسالة لا يكون له وجود إلا على حاسوب القابل ولا يمكن إثباته طالما لم يخرج إلى الشبكة .
أما بالنسبة لنظرية تصدير القبول ، فالعبرة بلحظة ضغط القابل على مفتاح الإرسال Send من أجل إرسال رسالته المتضمنة القبول إلى الموجب. وهذه النظرة تثير مسألة جاهزية الشبكة للعمل وما إذا كانت صالحة أم لا ، فقد يكون هناك مانع فني أو تقني يحول دون ذلك ، فضلا عن أنه ليس هناك فارق زمني بين تصدير القبول وتسلمه ، فالفارق يكاد يكون معدوما .
أما بالنسبة لنظرية العلم بالقبول ، فإن علم الموجب بالقبول يتجسد عندما يفتح صندوق خطاباته الإلكتروني مثلا ويطالع الرسالة التي تتضمن القبول ، أو يطالع صفحته على شبكة الويب Web .