المطلب الثاني
القواعد المكملة
القاعدة المكملة هي القاعدة التي يجوز الاتفاق على مخالفة الحكم الذي تقرره، بحيث يكون هذا الاتفاق ـ إن وجد ـ صحيحاً، ويترتب عليه استبعاد سريان الحكم المقرر في القاعدة على أطراف الاتفاق. أما إذا سكتوا ولم ينصوا على ما يخالف حكمها فإنها تسري عليهم.
حكمة وجود القواعد المكملة
رأى المشرع أن يترك للأفراد تنظيم علاقاتهم الخاصة وفقا لما يرتضون لأن هذه العلاقات تعنيهم وحدهم؛ ولا تتصل بكيان المجتمع ومقوماته الأساسية، لذا لا يهم المجتمع تنظيمها على نحو معين دون غيره. ففي العلاقة بين البائع والمشتري مثلاً لا يتأثر المجتمع بتنظيم كثير من المسائل، كموعد تسليم المبيع، أو مكان التسليم، أو وقت الوفاء بالثمن، أو مكان الوفاء … الخ.
على أن الواقع دل أن الأفراد كثيراً ما يقتصرون على تنظيم المسائل الجوهرية ولا يتناولون بالتنظيم جميع المسائل التفصيلية، وذلك إما بسبب عدم الخبرة أو لما يحتاجه ذلك من الجهد، أو لضيق الوقت، أو لعدم إدراكهم أن عدم تنظيم جزئية معينة يؤدي فيما بعد إلى الخلاف لاعتقادهم بعدم أهميتها.
ففي عقد البيع قد يتفق المتعاقدان على الشيء المبيع، ومقدار الثمن، والمسائل الأخرى التي كانت ذات أهمية في نظرهما عند إبرام العقد. ولكنهما يغفلان ما عدا ذلك من تفصيلات، كتحديد ميعاد تسليم المبيع ومكانه، أو ميعاد دفع الثمن ومكانه، أو بيان من يتحمل منهما مصاريف العقد. ثم يثور النزاع بشأن مسألة من المسائل التي أغفلوها والتي يتعين الفصل فيها.
لذلك عني المشرع في القوانين الحديثة بوضع قواعد تنظم هذه المسائل وأمثالها، بهدف معاونة الأفراد وسد ما يكون من نقص في تصرفاتهم، ونص على انطباق هذه القواعد عند عدم اتفاق الأفراد على تنظيم المسألة التي وضعت لها، لتكمل ما اتفقوا عليه، ولهذا تسمى القواعد المكملة.
تعليل مخالفة الأفراد للقواعد المكملة
إذا كان للأفراد أن يتفقوا على ما يخالف حكم القاعدة القانونية المكملة فكيف يتفق هذا مع قولنا إن القاعدة القانونية ملزمة؟
في الإجابة على هذا السؤال يذهب الفقه إلى أن أية قاعدة قانونية ـ سواء كانت آمرة أم مكملة ـ لا تنطبق إلا إذا توافرت الشروط التي يتطلبها القانون لذلك.
وأن القانون يشترط لتطبيق القاعدة المكملة شرطا خاصا هو ألا يتفق المتعاقدان على ما يخالف حكمها. فإذا تحقق هذا الشرط بأن سكت المتعاقدان عن تنظيم المسألة التي يتناولها حكم القاعدة المكملة، فان حكمها يكون واجب التطبيق.
أما إذا تخلف هذا الشرط بأن اتفق المتعاقدان على تنظيم مخالف لحكم القاعدة المكملة، فمعنى ذلك عدم توافر مجال تطبيقها.
أي أن استبعاد تطبيق القاعدة المكملة، يرجع في هذه الحالة إلى عدم توافر الشروط اللازمة لتطبيقها، لا لكونها غير ملزمة .
فالقاعدة القانونية المكملة تخاطب طائفة معينة من الأشخاص هم الذين لم يتفقوا على ما يخالف حكمها، وإلى فئة معينة من العلاقات القانونية هي التي لم يتفق ذوو الشأن فيها على إخضاعها لتنظيم آخر. فإذا وجد هذا الاتفاق خرجت العلاقة القانونية، التي كانت موضوعا له، عن نطاق تطبيق القاعدة القانونية لفقد أحد الشروط اللازمة لتطبيقها.
مثال ذلك القاعدة التي تنص أن ” على المشتري تسليم الثمن عند التعاقد أولا وقبل تسلم المبيع أو المطالبة به ما لم يتفق على غير ذلك “، وكذلك القاعدة التي تنص على أنه ” يلزم المشتري تسليم الثمن المعجل في مكان وجود المبيع وقت العقد ما لم يوجد اتفاق أو عرف يغاير ذلك “. فكل من هاتين القاعدتين لم توضع لكل عقود البيع، بل وضعت فقط للعقود التي لم يتفق طرفاها على وفاء المشتري بالثمن في تاريخ معين، أو في مكان معين غير المكان الذي يسلم فيه المبيع، وبشرط أن لا يوجد عرف يقضي بالوفاء في مكان آخر غير المكان الذي يسلم فيه المبيع.
يتضح لنا مما تقدم أن القاعدة المكملة تصبح واجبة التطبيق لمجرد سكوت الطرفين عن تنظيم المسألة التي تحكمها تلك القاعدة، دون حاجة لإثبات أن إرادة المتعاقدين قد اتجهت إليها. بل حتى دون أن يكونا على علم بموضوعها لأنها مستمدة من إرادة المشرع لا من إرادة ذوي الشأن . ولكن يجب أن يلاحظ أن المتعاقدين قد يتفقان على تنظيم المسائل الجوهرية في العقد، ويتفقان أيضا على أن يجري تنظيم المسائل التفصيلية فيما بعد. وفي هذه الحالة إذا علق الفريقان انعقاد العقد على الاتفاق على تلك المسائل بالفعل، ولم يتوصلا إلى اتفاق، لا ينعقد العقد ولا مجال للالتجاء إلى القواعد المكملة. لأن هذه القواعد تكمل اتفاقا موجودا، أي عقدا تم انعقاده .
أما إذا لم يتضح أن إرادة المتعاقدين قد علقت انعقاد العقد على الاتفاق على تلك المسائل، فان العقد ينعقد ويقوم القاضي بتكملته وفقا لأحكام القواعد المكملة.