النقض لغة(1) معناه الإفساد أو الإبطال. ونقض الشيء نقضا: أفسده بعد إحكامه. يقال نقض البناء: هدمه. ونقض الحبل أو الغزل: حل طاقاته. وفي التنزيل العزيز “ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا”(2). ونقض اليمين أو العهد: نكثه وفي التنزيل العزيز ” ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها”(3). وقوله سبحانه “الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه”(4) ونقض ما أبرمه فلان: أبطله.
ونقض الحكم: إبطاله إذا كان قد صدر مبنيا على خطأ في تطبيق القانون أو تأويله، أو مشوبا بخطأ جوهري في إجراءات الفصل، أو ببطلان في الحكم. والنقض قد يصيب الحكم المدني والحكم الجنائي على السواء متى كان أحدهما قد صدر نهائيا من المحاكم الابتدائية أو من محاكم الاستئناف(5).
والطعن بالنقض يجب أن يستند إلى أسباب قانونية، فهو طريق طعن غير عادي يلجأ إليه لإصلاح ما شاب الحكم من مخالفة لأحكام القانون تطبيقا أو تفسيرا أو تأويلا ولا يؤذن به إلا للأسباب الواردة في القانون على سبيل الحصر. ، فمحكمة النقض هي محكمة قانون تحاكم الحكم ولا تحاكم الواقع ، لذلك فإنها تقتصر في عملها على مراقبة تطبيق المحاكم للقانون تطبيقا سليما، سواء تعلق الأمر بالقواعد الموضوعية أم بقواعد الإجراءات، دون أن تتطرق لبحث الوقائع الواردة في الحكم المطعون فيه من جديد، بل تفترض صحة هذه الوقائع وتسلم بها كما أثبتتها محكمة الموضوع، ويقتصر بحثها على مسألة ما إذا كانت تلك المحكمة قد طبقت القانون تطبيقا سليما على هذه الوقائع فترفض الطعن، أم أنها لم تطبقه تطبيقا سليما فتنقض الحكم وتعيد الدعوى للمحكمة التي أصدرته لتنظرها من جديد على ضوء الأحكام والمبادئ التي قررتها محكمة النقض ، دون أن تقحم ذاتها بالجانب الموضوعي . ولا يصح لها أن تحل محل محكمة الاستئناف في هذا الجانب لتقرر ما إذا كان الحكم المطعون فيه صحيحا من الناحية الموضوعية ومطابقا لما كانت تقضي فيه هي ذاتها لو كانت محكمة موضوع، ذلك أن فهم الواقع والتقرير في شأنه وتقدير قيمة البينة ووزنها يدخل في سلطة محكمة الموضوع متى كان حكمها قد أقيم على أسباب سائغة تكفي لحمله وله أصل في الأوراق. (1)
فليس سببا للنقض ما يشوب الحكم من عيوب تتعلق بتقرير الواقع ، أي التقرير الذي به يرى قاضي الموضوع أن واقعة ما حدثت أو لم تحدث . غير أنه ليس معنى ذلك أن يخرج من رقابة محكمة النقض كل ما يتصل بالوقائع ، فمن المقرر أنه يخضع للنقض التكييف القانوني للواقعة ، أي تحديد وصف الواقعة لبيان ما إذا كانت تخضع لقاعدة قانونية معينة أم لا ، فهذا التكييف يعتبر مسألة قانون.
وتوجد محكمة النقض على قمة النظام القضائي في سلم ترتيب المحاكم النظامية، غير أنها لا تعد درجة ثالثة من درجات التقاضي،(1) فلا ينشأ عن الطعن بالنقض إعادة طرح النزاع في موضوعه أمام محكمة النقض، بل تقتصر مهمة محكمة النقض – مبدئيا – على جمع كلمة القضاء وتوحيدها وتوجيهها الوجهة السليمة، فهي تقوم بوظيفتين:
الأولى: مراقبة تطبيق المحاكم للقانون، فهي تعمل على تأكيد احترام القواعد القانونية، سواء كانت قواعد موضوعية أم قواعد إجرائية.
والثانية: المحافظة على وحدة تفسير القواعد القانونية في أنحاء الدولة، الأمر الذي يؤدي إلى توحيد أحكام القضاء، فلا تذهب المحاكم في تطبيقها للقانون وتفسيرها له مذاهب شتى.
ويتبين من ذلك أن الطعن بالنقض مقرر أساسا للصالح العام، فهو طعن لصالح القانون والسهر على حسن تطبيقه وتفسيره، قبل أن يكون لصالح الخصوم، بل تكون هذه المصلحة الأخيرة بصفة ثانوية وتابعة لتحقيق المصلحة العامة.
ونتناول الطعن بالنقض في ستة مباحث على النحو الآتي:
المبحث الأول: الأحكام التي تقبل الطعن بالنقض.
المبحث الثاني: أسباب الطعن بالنقض.
المبحث الثالث: ميعاد الطعن بالنقض وإجراءاته.
المبحث الرابع: أثر الطعن بالنقض.
المبحث الخامس: نظر الطعن بالنقض.
المبحث السادس: الحكم بالطعن وأثره.
المبحث الأول
الأحكام التي تقبل الطعن بالنقض
تنص المادة (225) من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية على أنه “للخصوم حق الطعن بطريق النقض في الأحكام النهائية الصادرة من محاكم الاستئناف إذا كان الطعن مبينا على مخالفة للقانون أو خطأ في تطبيقه أو في تأويله”.
بينما تنص المادة (226) منه على أنه “يجوز للخصوم أن يطعنوا بطريق النقض في أي حكم نهائي في الأحوال الآتية:
- إذا وقع بطلان في الحكم أو بطلان في الإجراءات أثر في الحكم.
- إذا تناقض الحكم المطعون فيه مع حكم سابق حاز قوة الأمر المقضي فيه وصدر بين الخصوم أنفسهم وبذات النزاع”.
ويتبين من نص المادة (225) أن القاعدة أنه لا يقبل الطعن بالنقض إلا الأحكام النهائية الصادرة من محاكم الاستئناف، فلا يقبل الطعن في الأحكام الصادرة من محاكم الدرجة الأولى(1)ولو صدرت نهائية. وأن جميع الأحكام الصادرة من محاكم الاستئناف تقبل – بحسب الأصل – الطعن بالنقض إذا توافر سبب من أسباب الطعن المحددة في القانون، سواء كان حكم الاستئناف صادرا في الموضوع بتأييده أو إلغائه أو إبطاله. على أن الطعن بالنقض يرد على هذا الحكم وليس على الحكم الصادر من محكمة أول درجة والذي كان مطروحا بالاستئناف على محكمة الاستئناف، ولهذا فإن سبب الطعن بالنقض يجب أن يتوافر في حكم محكمة الاستئناف.
ويشترط لقبول الطعن بالنقض أن يكون حكم محكمة الاستئناف نهائيا، لذلك فإن القرارات الصادرة عن محكمة الاستئناف قبل الفصل في موضوع الخصومة كالقرار الذي يصدر في مسألة عارضة أو متصلة بالإثبات فيها أو الذي يصدر في شق منها، مثل قرار رد الاستئناف شكلا وإعادة الدعوى إلى محكمة الدرجة الأولى للسير فيها حسب القانون، وإلغاء حكم محكمة الصلح القاضي برد الدعوى لعدم صحة الخصومة وإعادتها إليها للسير فيها حسب الأصول ، لا يجوز – بحسب الأصل- الطعن فيها على حدة قبل صدور الحكم الأخير، أي لا يطعن فيها إلا بعد صدور الحكم المنهي للمحاكمة كلها أمام محكمة الاستئناف، فيشمل الطعن بالنقض الحكم النهائي الصادر من محكمة الاستئناف والأحكام الفرعية السابقة عليه.(1)
والعبرة في كون الحكم المستأنف نهائيا بالنسبة للمطعون ضده ، فإذا كان المدعى عليهم اثنان وقررت محكمة الاستئناف إلغاء الحكم المستأنف ورد الدعوى عن المدعى عليه الثاني لأنه لا ينتصب خصما للمدعي ، وإعادة الأوراق لمحكمة الدرجة الأولى للسير بالدعوى في حق المدعى عليه الأول وفق أحكام القانون ، فإن حكمها يقبل الطعن المباشر استقلالا بطريق النقض بالنسبة للمستأنف ( المدعى عليه) الثاني لأنه يكون قد فصل في الدعوى بالنسبة له بحكم نهائي . (1)
غير أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما المقصود بالأحكام النهائية الصادرة من محاكم الاستئناف؟ وهل يقتصر ذلك على الأحكام الصادرة عن محكمة الاستئناف في الدعوى الحقوقية البدائية وحدها، أم أنه يشمل كذلك الأحكام التي تصدر عن محاكم البداية بصفتها الاستئنافية؟
أجاب المشرع على هذا السؤال في المادة 30 من قانون تشكيل المحاكم النظامية رقم 5 لسنة 2001 حيث نصت على أنه:
تختص محكمة النقض بالنظر في:
- الطعون المرفوعة إليها عن محاكم الاستئناف في القضايا الجزائية والمدنية ومسائل الأحوال الشخصية لغير المسلمين.
- الطعون المرفوعة إليها عن محاكم البداية بصفتها الاستئنافية.
ويتبين من هذا النص أن حق الطعن بالنقض يشمل النوعين معا، وأن المشرع إنما قصد بنص المادة 225 من أصول المحاكمات المدنية والتجارية، الأحكام النهائية الصادرة عن محاكم الدرجة الثانية سواء كانت محكمة استئناف أم محكمة بداية بصفتها الاستئنافية، فالعبرة بالحكم الصادر في الاستئناف المقدم للمحكمة وليس بالمحكمة التي أصدرت حكم الاستئناف.(1) وقد كان من الأفضل لو أن المشرع استعمل مصطلح المحكمة الاستئنافية وليس محاكم الاستئناف حتى لا يترك مجالا لأي ليس أو غموض.
(1) المعجم الوسيط، الجزء الثاني، الطبعة الثانية، ص 947.
(2) سورة النحل الآية 92.
(3) سورة النحل الآية 91.
(4) سورة الرعد الآية 25.
(5) المعجم الوسيط، ص 947.
(1) نقض مدني 63/2005 تاريخ 29/10/2005 ج 2 ص 742، نقض مدني 83/2005 تاريخ 5/2/2006 ج 2 ص 758. وعلى ذلك إذا كان ما ينعاه الطاعن على الحكم الطعين يتعلق بوزن البينة فإنه لا يعدو أن يكون جدلا في الجانب الواقعي للحكم ولا يصلح أن يكون سببا للطعن بالنقض. نقض مدني 75/2006 تاريخ 20/6/2007 ج 3 ص 432، نقض مدني 137/2006 تاريخ 27/6/2007 ج 3 ص 451، نقض مدني 147/2006 تاريخ 22/11/2007 ج 3 ص 478، نقض مدني 196/2006 تاريخ 27/5/2008 ج 4 ص 678، نقض مدني 42/2008 تاريخ 28/10/2008 ج 4 ص 686، نقض مدني 261/2008 تاريخ 15/12/2008 ج 4 ص 515، نقض مدني 147/2008 تاريخ 28/12/2008 ج 4 ص 649. وغيرها.
(1) نقض مدني 33/2003 تاريخ 16/11/2003 ج 2 ص 563.
(1) نقض مدني 18/2004 تاريخ 13/3/2004 ج 2 ص 592، نقض مدني 23/2004 تاريخ 28/3/2004 ج 2 ص 601 قرار محكمة بداية بالرجوع عن تعيين قيم ، نقض مدني 12/2005 تاريخ 30/1/2005 ج 2 ص 662 حكم صادر عن محكمة الصلح، نقض مدني 51/2005 تاريخ 13/3/2005 ج 2 ص 692 حكم محكمة بداية ورد فيه أنه قابل للطعن بالنقض، نقض مدني 73/2005 تاريخ 14/1/2006 ج 2 ص 748.
(1) نقض مدني 40/2003 تاريخ 27/12/2003 ج 2 ص 584 ، نقض مدني 54/2003 تاريخ 28/12م2003 ج 2 ص 588 قرار يتعلق بقبول الاستئناف شكلا، نقض مدني 43/2004 تاريخ 19/4/2004 ج 2 ص 629 ، نقض مدني 27/2006 تاريخ 6/2/2007 ج 3 ص 377 ، نقض مدني 168/2006 تاريخ 30/10م2007 ج 3 ص 468، نقض مدني 170/2006 تاريخ 5/12/2007 ج 3 ص 491، نقض مدني 5/2007 تاريخ 5/1/2008 ج 4 ص 448، نقض مدني 93/2006 تاريخ 8/5/2008 ج 4 ص 544. وغيرها.
(1) ) نقض مدني 142/2005 تاريخ 26/6/2005 ج 2 ص 723.
(1) نقض مدني 8/2002 تاريخ 11/12/2002 ج 2 ص 534، نقض مدني 12/2002 تاريخ 13/1/2003 ج 2 ص 537، نقض مدني 43/2007 تاريخ 28/5/2007 ج 3 ص 396، نقض مدني 130/2006 تاريخ 2/7/2007 ج 3 ص 457.