السكوت :
السكوت أمر سلبي، والتعبير عن الإرادة عمل إيجابي، لذلك لا يتصور كقاعدة عامة أن يكون السكوت تعبيراً عن الإرادة، ولا يمكن أن يستنبط من مجرد السكوت إيجاباً.
أما بالنسبة للقبول ، فقد نصت المادة 95/1 من القانون المدني على أنه ” لا ينسب لساكت قول ، ولكن السكوت في معرض الحاجة بيان ويعتبر قبولاً ” .
ويتضح من هذا النص أن الأصل عدم اعتبار السكوت قبولاً ، فلو ألزمنا كل شخص بالرد على ما قد يعرض عليه من إيجاب لكان في هذا حرج وضيق .
واستثناءً من هذا الأصل يمكن أن يعتبر السكوت قبولاً إذا أحاطت به ظروف وملابسات من شأنها أن ترجح دلالته على الرضا ، وهو يسمى السكوت الملابس ، إذ يعد تعبيراً ضمنياً عن الإرادة على أساس ما لابسه من ظروف ترجح فيه دلالة القبول، كما في الأحوال الآتية :
- إذا كان هناك تعامل سابق بين المتعاقدين واتصل الإيجاب بهذا التعامل ، مثال ذلك أن يعتاد تاجر جملة على إرسال بضاعة من صنف معين إلى تاجر تجزئة مرفقة بفاتورة ، فإذا أرسل له كمية من هذه البضاعة وسكت تاجر التجزئة ، كان لتاجر الجملة أن يعتبر سكوته قبولاً .
- إذا تمخض الإيجاب لمنفعة من وجه إليه ، مثال ذلك أن يخبر المؤجر المستأجر أنه قرر تخفيض الأجرة المتفق عليها ، ويسكت المستأجر عن الرد مدة معقولة، فإن ذلك يعتبر قبولاً منه للإيجاب لعدم وجود مبرر لرفضه في هذه الحالة . وكذلك أن تعرض الهبة على الموهوب له فيسكت .
- إذا كان هناك نص صريح في القانون يعتبر السكوت قبولاً ، كما في البيع بشرط التجربة ، إذ نصت المادة 471/2 مدني على أنه إذا انقضت مدة التجربة وسكت المشتري مع تمكنه من تجربة المبيع اعتبر سكوته قبولاً ولزم البيع .
- إذا وجد عرف يقضي باعتبار السكوت دليلاً على الرضا ، مثال ما جرت عليه البنوك عند إرسال كشف حساب العملاء ، إذ يتضمن الكشف عادة نصاً على أن عدم الاعتراض على محتويات الكشف خلال مدة معينة يعتبر إقراراً بصحته ، فإذا سكت العميل ولم يعترض على الكشف خلال المدة المحددة اعتبر سكوته دليلاً على إقراره بصحة الكشف .
- إذا كان هناك اتفاق بين المتعاقدين على اعتبار السكوت قبولاً ، مثال ذلك النص في عقد الإيجار أو عقد العمل على أن يتجدد العقد تلقائياً ما لم يقم أحد الطرفين بإخطار الطرف الآخر برغبته في عدم التجديد قبل انتهاء مدة العقد ، فيعتبر السكوت عن الإخطار قبولاً بتجديد العقد .
ويلاحظ في جميع الحالات السابقة أن هناك واجباً على من وجه إليه الإيجاب بأن يصرح برفضه إن لم يشأ قبوله ، لذلك إذا لم يقم بهذا الواجب وسكت ، اعتبر سكوته قبولاً.
عدم مطابقة التعبير للإرادة : الإرادة الظاهرة والإرادة الباطنة :
الإرادة بمعنى النية هي مسألة نفسية داخلية لا يعلم بها إلا صاحبها ، ولا يمكن أن يعلم بها غيره إلا إذا عبر هو عنها بأحد مظاهر التعبير المادية مثل الكلام أو الكتابة أو الإشارة . فالتعبير عن الإرادة هو وسيلة لنقل الإرادة من نفس صاحبها إلى العالم الحسي الملموس حتى يعلم بها الغير . فإذا اتفقت الإرادة المعلنة مع الإرادة الكامنة في النفس لا تثور أية مشكلة .
غير أن الشخص عند تعبيره عن إرادته ، قد يصدر منه تعبير لا يتفق مع ما يريده، فهنا يقال أن الإرادة الظاهرة (التعبير) تختلف عن الإرادة الباطنة (النية) ، فبأي الإرادتين نعتد ؟ هل نأخذ بالإرادة الظاهرة أي بما يفهم من العبارة الصادرة ، أم بالإرادة الباطنة ؟
اختلف الفقه وكذلك التشريعات في الدول المختلفة حول هذه المسألة .
فنظر اتجاه أول إلى الاعتبارات الخلقية ، لذلك ذهب إلى أنه يجب الأخذ بالإرادة الحقيقية وهي الإرادة الباطنة التي تنطوي عليها النفس . أما التعبير عنها فهو مجرد وسيلة للكشف عنها أو دليل عليها يمكن إثبات عكسه . لذلك إذا لم يكشف التعبير عن الإرادة الحقيقية وجب تركه والبحث عن تلك الإرادة ، فإذا تعذر على القاضي الوصول إليها ، تعرف عليها عن طريق الافتراض . فالإرادة الباطنة – حقيقية أو مفترضة – هي التي يجب التعويل عليها .
بينما نظر اتجاه آخر إلى ضرورة الاستقرار الاجتماعي ، فذهب إلى أن القانون ظاهرة اجتماعية لا نفسية ، لذلك يجب أن تبرز الإرادة إلى العالم المادي الخارجي حتى يمكن التعرف عليها ، ولا يعلم من هذه الإرادة سوى الإرادة الظاهرة ، لذلك يجب أن نقف عندها ونعتد بها ، ويحق لمن وصل إليه هذا التعبير أن يطمئن إليه ، ولو أجزنا إثبات الإرادة الباطنة لاضطربت المعاملات ، لذلك لا يجوز لمن صدر عنه التعبير أن يحتج على من تعاقد معه أنه كان ينطوي في نفسه على نية أخرى غير التي دل عليها التعبير، ولا يعتد بالإرادة الحقيقية إذا كانت مختلفة عن التعبير عنها ، ولا يسمح بإثبات عكس التعبير ، وفي هذا استقرار للتعامل .
وقد أخذ المشرع الأردني برأي الحنفية والشافعية ، فاعتنق نظرية الإرادة الظاهرة ، إذ نصت المادة (90) من القانون المدني على أنه ” ينعقد العقد بمجرد ارتباط الإيجاب بالقبول … “. وبينت المذكرة الإيضاحية للقانون أن معنى ذلك أن انعقاد العقد يتم بالإرادة المعلنة من الطرفين بموافقتهما على العقد عند تبادل التعبير عن إرادتين متطابقتين، أي بالإرادة الظاهرة ، وليس بنفس الإرادتين أي بالإرادة الباطنة .