وبناء على ما تقدم فإننا سنقوم بتحليل الوضع بعد انتهاء الانتداب والإعلان عن قيام دولة إسرائيل من جهة، وانضمام ما تبقى من نصيب الدولة العربية إلى إمارة شرق الأردن وتكوين المملكة الأردنية الهاشمية من جهة أخرى.
أولا: إعلان إقامة دولة إسرائيل:
في 14 مايو – أيار سنة 1948 أعلنت بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسطين والانسحاب منها وفي ذات التاريخ اعلن المجلس الوطني اليهودي وجود دولة إسرائيل وقد أعلنت حكومة هذه الدولة الجديدة قبولها لقرار التقسيم وقرار الجمعية العامة القاضي بعودة اللاجئين وتعويضهم الصادر في 11 ديسمبر 1948 وتعهدت بتنفيذها حيث تم قبولها في الأمم المتحدة بناء على هذا القبول والتعهد1.
وإعلان أول حكومة إسرائيلية قبول قرار التقسيم يعني بكل وضوح اعترافها بأن حدودها الدولية هي الحدود التي رسمها قرار التقسيم، والتزامها بميثاق الأمم المتحدة بعد قبولها عضوا فيها يعني التزامها بعدم الاستيلاء على أراض خارج حدودها الدولية المقررة بموجب قرار التقسيم، إلا أن هذه الدولة الجديدة تجاوزت هذه الحدود واستولت على أراض أخرى مخصصة للدولة العربية وهذا الاستيلاء بالقوة يعتبر احتلالا لإقليم أجنبي ومع استمرار وجود حالة الحرب فإنه لا يترتب أي حق لإسرائيل على هذا الجزء بل يجب إعادته لأصحابه بعد انتهاء حالة الحرب بين الطرفين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن اتفاقيات الهدنة تنص صراحة على أنها لا تعتبر إنهاء للحرب ولا تمس حقوق ومطالب الأطراف، وأن الاعتبار الأساسي في عقد المعاهدة هو للمتطلبات العسكرية.
كما وأن قبول إسرائيل بقرار الجمعية العامة القاضي بعودة اللاجئين وتعويضهم، يعني اعترافها بأن هؤلاء اللاجئين هم مواطنون لهم الحق في ممتلكاتهم التي تقع ضمن حدودها، كما لهم الحق في المساواة مع غيرهم من المواطنين، (وكان التعبير العملي عن الإقرار بهذه الحقوق هو تشكيل مكتب المسؤول عن أموال الغائبين وعدم إجراء تغييرات جوهرية في هذه الأملاك إلى ما بعد حرب حزيران عام 1967.
ثانيا: تكوين المملكة الأردنية الهاشمية:
بعد أن صادق مجلس عصبة الأمم على قرار إعطاء حق الانتداب على فلسطين لبريطانيا العظمى، قامت بريطانيا بتاريخ 22-7-1922 بفصل المنطقة الواقعة إلى شرق الأردن، وأقامت عليها دولة إمارة شرق الأردن التي اعترفت بها عصبة الأمم كدولة مستقلة ذات سيادة2.
وفي اليوم التالي لإعلان بريطانيا إنهاء الانتداب على فلسطين أي في 15 مايو – أيار سنة 1948 دخلت الجيوش العربية (السورية واللبنانية والأردنية والعراقية والمصرية) أراضي فلسطين لمساعدة شعبها العربي على الدفاع عن حقوقه المشروعة، وتوقف القتال بعد اتفاقيات الهدنة واحتفظت إسرائيل بموجب الهدنة بكل ما تمكنت من احتلاله تقريبا من الأراضي الفلسطينية وهي تزيد بنسبة 23% تقريبا من المساحة التي خصصها قرار التقسيم للدولة اليهودية، أما ما تبقى من القسم المخصص للدولة العربية الذي يقع غرب نهر الأردن، فقد تمت الوحدة بينه وبين شرق الأردن – كما سيتم تفصيله لاحقا – حيث تم نتيجة لذلك ظهور دولة جديدة سميت بالمملكة الأردنية الهاشمة.
وقد أثار الفقه الإسرائيلي3، في هذا الخصوص مسألتين: فقد ذهب أولا: إلى أن دخول الجيوش العربية وعبورها الحدود الدولية الفلسطينية هو « غزو » ، وليس ذلك فقط، بل أن هذا الغزو هو استعمال غير مشروع للقوه بسبب استعماله في غير الحالات المنصوص عليها قانونا، وهي الحالات الواردة في المادة «2» فقرة «4» والمادة «51» من ميثاق الأمم المتحدة، فالإعلان عن قيام دولة إسرائيل استنادا لقرار التقسيم الذي يعتبر وفقا لوجهة النظر الإسرائيلية قرارا ملزما إلزاما قانونيا يؤدي إلى أن استعمال القوة ضد هذه الدولة يقع ضمن الحظر الوارد في المادة «2» فقرة «4» التي تمنع التهديد ب أو استعمال القوة ضد السيادة الإقليمية والاستقلال السياسي لدولة عضو بالأمم المتحدة، ويضيف Stone الذي يؤيد وجهة النظر الإسرائيلية إلى أن هذا الوضع يجيز لمجلس الأمن وبدون توصية مسبقة من الجمعية العامة أن يعتبر ذلك مخالفا للمادة (39) من الميثاق مع كل ما يترتب على ذلك من نتائج4.
أما المسألة الثانية فتتعلق بموقف الأردن القانوني فيما يتعلق بموضوع السيادة على الضفة الغربية، حيث يتلخص الموقف الإسرائيلي في أن دخول جيش الأردن إلى فلسطين عام 1948 مع الجيوش العربية كان استعمالا غير مشروع للقوه يؤدي إلى منعها من اكتساب أي ملكية قانونية بالرغم من ضمها للضفة فيما بعد، وأن هذا الوضع يعطي الأردن في أحسن الأحوال المركز القانوني الذي تكتسبه عادة دولة الاحتلال، فسلطة الأردن في الضفة منذ عام 1948 ولغاية عام 1967 تعتبر سلطة احتلال، أي أن عدم مشروعية وقانونية دخول الأردن للضفة عام 1948 بما أنه ناتج عن «غزو» غير مشروع وعدوان، يؤدي إلى سريان المبدأ الذي يقضي بأن الفعل الخاطئ لا يكسب مرتكبه أي حق5، ولا يخفي بطبيعة الحال الغرض من هذا التحليل، لأنه يؤدي بالنتيجة إلى القول بأن الإقليم أي الضفة الغربية لا يوجد له صاحب سيادة شرعي.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن قيام إسرائيل بطرد الأردن من الضفة عام 1967 نتيجة الاستعمال المشروع للقوة يعطيها «أي إسرائيل» مركزا قانونيا على الضفة، ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك، بأن هناك فراغا في السيادة بالنسبة للضفة الغربية تستطيع إسرائيل أن تملأه وذلك بإقامة سلطة ثابتة وفعالة فيها، ويخلص هذا الرأي إلى أنه ما دام أن الأردن ليس صاحب سيادة شرعي على الضفة الغربية، فإنه لا يوجد التزام قانوني على إسرائيل بعد احتلالها للضفة الغربية عام 1967 بتطبيق قانون الاحتلال الحربي عليها، لأن هذا القانون يرمي إلى تحقيق هدفين رئيسيين الأول: هو حماية حقوق السكان المدنيين في المناطق المحتلة، والثاني: هو المحافظة على مركز ومصالح صاحب السيادة الشرعي الذي طردته سلطات الاحتلال، وبما أن الأردن وفقا لهذا الرأي ليس صاحب السيادة فلا يوجد التزام على إسرائيل بمراعاة قانون الاحتلال الحربي من أساسه.
أما بالنسبة للمسألة الأولى، فالواقع أنه قبل القول بقيام حالة الغزو كوضع قانوني وفقا لقانون الاحتلال الحربي ومن ثم تطبيق قواعد هذا القانون التي تحكم الحالة التي نحن بصددها هناك شروط وأوضاع أولية يجب توافرها وذلك من أجل إمكانية مثل هذا التطبيق، “فالغزو” يفترض بداهة كشرط أولي قيام حالة الحرب بين أطراف النزاع فهو أي الغزو… كما يذهب (VON GIAHN) يقع على دولة «عدوة» فهو عبارة عن اختراق أقاليم عدوة6.
أما L. Oppenheim فيذهب إلى «أن الاحتلال هو غزو بالإضافة إلى سيطرة على بلد «عدو» بغرض الاحتفاظ بها وبأي ثمن لفترة محدودة7. أما (Allen Gerson) فيذهب إلى أن الغزو يطلق على احتلال أقاليم أجنبية مع استمرار الحرب، حيث إن السيطرة الفعالة المستمرة على المناطق المعينة لم تثبت بعد8.
فالقاسم المشترك بين جميع التعريفات السابقة هو توافر حالة الحرب بين الطرفين المتنازعين، وبالتالي توافر صفة العداء بينهما، حيث يكون كل من الطرفين “عدوا” للآخر، فهل كان دخول الجيوش العربية إلى فلسطين هو دخول إلى أراضي دولة عدوة؟
الواقع أن الأوضاع التي سادت فلسطين قبل الاحتلال البريطاني لها تثبت أنه ليس فقط لم يكن هناك عداء، بل لم يكن هناك حدود إقليمية تفرق بين فلسطين وسوريا وشرق الأردن ولبنان، حيث كانت هذه الأقاليم تشكل وحدة إقليمية واحدة، لم تتجزأ إلا بعد هزيمة الامبراطورية العثمانية ودخول قوات الاحتلال البريطاني للمنطقة ومن ثم اقتسامها وفقا لمعاهدة سايكس – بيكو بين بريطانيا وفرنسا. وقد تبين فيها سبق أن بريطانيا – بعد أن فوضتها عصبة الأمم بالانتداب على فلسطين قامت بسلخ الجزء الشرقي من نهر الأردن وإنشاء دولة إمارة شرق الأردن التي اعترفت بها عصبة الأمم كدولة مستقلة ذات سيادة9.
أما بعد صدور صك الانتداب من مجلس عصبة الأمم ودمج وعد بلفور به بما تضمنه من قيام السلطات البريطانية بتسهيل الهجرة اليهودية وتسهيل انتقال الأراضي من أيدي أصحابها الشرعيين، فقد قامت حركة وطنية مضادة من قبل السكان المحليين تمثلت في البداية بمؤتمرات وطنية كان عددها من عام 1919 – 1936ثمانية مؤتمرات، وتثار في هذا الصدد مسألة تمثيل هذه المؤتمرات للسكان المحليين باعتبارهم أصحاب السيادة؟
——————————
1 يلاحظ أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تكونت بقرار من المجتمع الدولي، حيث كان قرار عصبة الأمم بتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين وتكليف دولة الانتداب تنفيذ ذلك هو الوسيلة لتوفير عنصر السكان اللازم لإقامة الدولة كما كان قرار التقسيم عام 1947 هو الوسيلة لتحديد عنصر الإقليم فيها ولولا هذين القرارين مجتمعين لما أمكن إقامة هذه الدولة.
2 Allen Levine: (The Status of sovereignity in East Jerusalem and the West Bank) New York University Journal of International Law and Politics Vol. 5, 1972, P. 486.
3 من أمثاله:
Blum: (The missing reversioner) 3 Israel Law Review 1963.
Meir Shamgar: (The Observance of International Law in the administered territories.) Israel Year book for human rights 1971.
4 ذهب E. Lauterpacht إلى أن قرار التقسيم الذي رفض لا يصلح كأداة قانونية لإعادة ترتيب الأحقية في السيادة، وذلك بسبب من طبيعته ومن العبارات التي صيغ بها، وقد كان ممكنا باتفاق الأطراف أن يصبح القرار أساسا اتفاقيا لمسألة السيادة، وبناء على ذلك يذهب Julius Stone بأن الفترة التي أعقبت انسحاب بريطانيا، ورفض قرار التقسيم هي فترة فراغ في السيادة وبذلك فإن السيادة في مثل هذه الحالة يمكن اكتسابها من قبل أية دولة تتمكن من إقامة سلطة ثابتة وفعالة بدون اللجوء إلى وسائل غير مشروعة.
Julius Stone: (Israel and Palestine)· Assault on the Law of Nations) The Johnson Hopkins University Press’ Baltimore and LONDON 1981 P. 117.
5 Julius Stone: Supra Note (124) P. 118.
6 VON Glahn: Supra Note (16) P. 28.
7 L. Oppenheim: Supra Note (13) P. 434.
8 Allen Gerson: Supra Note (9) P. 2.
9 حتى أن المؤتمر السوري الأول الذي انعقد في تموز سنة 1920 في دمشق حضره ممثلون عن مناطق سورية الطبيعية، فضم مندوبين فلسطينيين كان منهم ثلاثة مندوبين عن القدس، وأربعة عن نابلس، واثنان عن طولكرم، وخمسة عن حيفا، واثنان من الناصرة، وثلاثة عن صفد، وأربعة عن طبريا حيث أعلن المؤتمر تمسكه بوحدة سوريا الطبيعية واستقلالها التام ورفض أية حماية أو وصاية على أي من أجزائها كما أعلن رفضه للهجرة اليهودية إلى فلسطين.