بعد أن عرفنا كيف تقام الدعوى، وكيف تصل إلى علم الخصوم، وما يحدث من حضور الخصوم أو غيابهم . يلزم أن نتمثل أمامنا دعوى تسير في مجراها الطبيعي لنرى المراحل والخطوات التي تسير فيها منذ أول جلسة حتى صدور الحكم فيها . لذا نتناول في هذا الفصل افتتاح الدعوى والمرافعة، وتوثيق وقائع الدعوى، وحفظ نظام الجلسة وأمنها، بعد بيان ما طرأ على دور القاضي في إدارة الدعوى سواء من حيث نظرها أو إثباتها.
المبحث الأول
دور القاضي في إدارة الدعوى
كان المبدأ السائد في ظل قانون أصول المحاكمات الحقوقية رقم 42 لسنة 1952 هو أن الدعوى ملك الخصوم يوجهونها حسب هواهم ووفق مصالحهم الخاصة، فكان دور القاضي سلبيا لا يتدخل في سير الدعوى، وكانت سلطته في توجيه الخصوم وتيسير إجراءات التقاضي منعدمة، فكان عليه أن ينتظر حتى يقدم الخصوم كل دفوعهم وبيناتهم ودفاعهم وتتهيأ الدعوى للفصل فيها ثم يصدر الحكم .
وقد أدى هذا الدور السلبي للقاضي إلى تعطيل الفصل في القضايا، حيث كان الخصوم يشغلون القاضي بالعديد من الدفوع الشكلية والموضوعية والمسائل الفرعية وأوجه البطلان التي يتوجب عليه بحثها والفصل فيها قبل الحكم في الدعوى، وكلما فصل في دفع أو مسألة أثير أمامه دفع أو طلب آخر لينشغل به عن بحث الحقوق الأساسية وتحقيق الغاية المرجوة من الالتجاء إلى القضاء وهي إيصال الحقوق لأصحابها .
كما أدى هذا الدور السلبي – بالإضافة لعوامل أخرى – إلى تراكم القضايا في المحاكم وبطء الوصول إلى الحق، بحيث أصبح من مصلحة كل مماطل أن يلجأ خصمه إلى القضاء باعتباره ميدانا يجد فيه المماطل متسعا للمراوغة والتعطيل، كما رسخ في ذهن الناس أن خير سبيل لإعاقة حق طرحه على ساحة القضاء . وقد نتج عن ذلك زيادة الميل إلى اغتصاب الحقوق والمماطلة في تأدية الالتزامات من جهة، والتجاء أصحاب الحقوق في تحصيل حقوقهم إلى وسائل أخرى تصل حد استعمال العنف ومخالفة القانون من جهة ثانية .
لذلك تدخل المشرع في كل من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية رقم 2 لسنة 2001 وقانون البيّنات في المواد المدنية والتجارية رقم 4 لسنة 2001، وجعل للقاضي دورا إيجابيا أكثر فاعلية، سواء قبل بدء المحاكمة أو خلال نظر الدعوى والسير في إجراءاتها، مقررا أن مهمة القضاء هي البحث عن الحقيقة والفصل في الدعاوى بسرعة، لذلك أسند للقاضي إدارة سير الدعوى وتحقيق عناصرها وأدلتها لضمان حسن تنفيذ القوانين الإجرائية والحد من الدفوع والإجراءات التحكمية التي يسعى إليها الخصوم لتأجيل نظر الدعاوى، ولسرعة الفصل في القضايا دون المس بالضمانات الأساسية للتقاضي المقررة للخصوم .
ولذلك أصبحت القاعدة الآن، إن الخصوم أحرار في الالتجاء إلى القضاء وأن يطالبوا بحقوقهم أو يتصالحوا عليها، إلا أنهم ليسوا أحرارا في إدارة الدعوى وتسييرها حسب أهوائهم، إنما ذلك هو واجب القاضي الذي له تسيير الخصومة وتوجيهها واتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيق الدعوى واستكمال أدلتها وصولا إلى الفصل فيها بقدر ما يستطيع من السرعة، باعتبار أن القضاء هو وظيفة عامة وأن وظيفة القاضي لا تقتصر على حسم النزاع وإنما تمتد إلى تطبيق القانون مما يقتضي ألا يترك هذا الأمر لمشيئة الخصوم .
وهذا الدور الإيجابي للقاضي في تحقيق العدالة بأسرع ما يمكن ومنع المماطلة ورد الحق إلى صاحبه يؤدي إلى قلة الميل إلى اغتصاب الحقوق، ويضطر كل فرد أن يؤدي ما عليه من التزامات طوعا حتى لا يجبر على أدائها كرها عن طريق السلطة العامة، كما يشجع الخصوم على الوصول إلى تسوية مقبولة بينهم وعدم عرض النزاع على القضاء للفصل فيه، كما يحول دون تهاون الخصوم وركونهم إلى وسائل المماطلة والتسويف والكيد لكسب الوقت وتأخير الفصل في الدعاوى، وبذلك يضمن المساواة بين المواطنين أمام قضاء عادل مما يؤدي إلى تهذيب أخلاق الشعب وتقويمها واستتباب الأمن في البلاد .
وعلى الرغم من نفاذ كل من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية وقانون البينات منذ عام 2001 ، إلا أن الباحث في أحكام المحاكم يرى أن غالب القضاة نادرا ما مارسوا دورهم المهيمن في إدارة الدعوى وتحقيق أدلتها وفق ما رسمه هذان القانونان، لذلك بقيت نصوصهما مجرد أدوات جامدة لا حراك فيها ، فالنص الذي لا تطبقه المحاكم هو مجرد نص ميت ، فإحياء النص لا يكون إلا بتطبيقه . ويبدو أنه غاب عن الكثير من القضاة كيفية استخدام هذه الأدوات وممارسة هذا الدور الإيجابي الذي يمكنهم من توجيه الدعاوى إلى طريقها المستقيم والحيلولة دون تهاون الخصوم وركونهم إلى وسائل المماطلة والكيد وكسب الوقت، الأمر الذي أدى إلى تراكم القضايا أمامهم .
مظاهر الدور الإيجابي للقاضي في إدارة الدعوى
على الرغم من مرور حوالي سبع سنوات على سريان كل من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية وقانون البينات في المواد المدنية والتجارية لسنة 2001، إلا أن قاعدة أن الدعوى من حق الخصوم وأنه لا يجوز للقاضي أن يتدخل في إجراءات المحاكمة لا زالت مسيطرة على فكر كثير من القضاة والمحامين . ولذلك حتى يستقيم العمل لا بد من تصويب الفهم وتسليط الضوء على أن هذه القاعدة لم يعد لها وجود في ظل القانونين المذكورين بعد أن قرر المشرع أن إدارة الدعوى من صلاحية القاضي في سعيه للبحث عن الحقيقة .
لذلك قبل أن نبدأ في متابعة عمل القاضي خلال نظره للدعوى في مراحلها المختلفة، نرى أن نشير إلى بعض نصوص القانونين المذكورين التي تعطي للقاضي صلاحية التدخل في الدعوى وتوجيه الخصوم فيها كدلائل على الفهم الجديد لإدارة الدعوى .
أولا : قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية
منح هذا القانون للقاضي سلطة تقديرية في كثير من المسائل سواء قبل نظر الدعوى أم خلال سير إجراءات المحاكمة نعرض لبعضها فيما يأتي :
- قبل نظر الدعوى
1–سلطة قاضي الأمور المستعجلة في تقدير الضرورة الموجبة لإصدار الإذن بأن يتم التبليغ ( أو التنفيذ ) في غير المواعيد المقررة في القانون ( المادة 8 / 2 ) .
2- سلطة القاضي في تقدير مدى جدية التحريات وكفايتها لتعذر تبليغ الشخص المراد تبليغه بالذات وصحة تبليغ من يقيم معه ( المادة 13 ) .
3- سلطة القاضي في تبليغ من له موطن معلوم في الخارج بطريق البريد المسجل مع علم الوصول أو بأية طريقة أخرى . ( المادة 18 / 1 ) .
4- سلطة القاضي في تقرير التبليغ وفق المادة 20 بعد التحقق من تعذر التبليغ وفق الأصول المقررة في القانون .
5- سلطة القاضي في تقييم دواعي ومبررات الحكم بالبطلان والحد من حالات بطلان الإجراءات وعدم الحكم بالبطلان رغم النص عليه إذا تحققت الغاية من الإجراء (المادة 23 ) .
6- سلطة القاضي في تصحيح الإجراء الباطل ولو بعد التمسك بالبطلان متى تم التصحيح في الميعاد المقرر في القانون أو الذي يحدده القاضي لذلك ( المادة 25 ).
7- سلطة القاضي في تحويل الإجراء الباطل إلى إجراء آخر صحيح متى توافرت عناصره وفي انتقاص الإجراء إذا كان باطلا في جزء منه ( المادة 26 ) .
8- سلطة القاضي في تقدير قيمة الدعوى عندما يرتاب في تقدير المدعي لها ( المادة 33) .
9- سلطة القاضي في استصدار القرار الذي يستصوبه في حال اشتمال الدعوى على عدة أسباب، سواء بنظر كل سبب على حدة أو غير ذلك ( المادة 58 ) .
10- سلطة القاضي في إجراء التعديل اللازم على لائحة الدعوى التي جمع فيها المدعي أسباب متعددة ( المادة 59) .
2- في مرحلة نظر الدعوى
- سلطة القاضي في السماح للمدعى عليه بتقديم لائحته الجوابية إذا حضر في أول جلسة تعقدها المحكمة للنظر في الدعوى ( المادة 64 ) .
- سلطة القاضي في شطب الدعوى إذا لم يحضر المدعي ولا المدعى عليه ( المادة 85/1)
- سلطة القاضي في تأجيل الدعوى أو شطبها إذا غاب المدعي في الجلسة الأولى وحضر المدعى عليه ( المادة 85/3 ) .
- سلطة القاضي في الحكم في الدعوى إذا كان المدعى عليه قد تبلغ بالذات ولو تغيب عن الحضور أو كانت الدعوى من الدعاوى المستعجلة ( المادة 85/2).
- هيمنة القاضي على إجراءات الجلسة ونظام نظر الدعاوى :
- سلطة القاضي في إجراء المحاكمة سرا محافظة على النظام العام أو الآداب أو حرمة الأسرة ( المادة 115 ) .
- سلطة القاضي في عدم الاستجابة إلى تأجيل الدعوى أكثر من مرة للسبب الواحد ( المادة 121 ) .
- سلطة القاضي في تحديد نقاط الاتفاق والاختلاف ( المادة 120/1 ) .
- سلطة القاضي في تحديد مواعيد الجلسات لسماع البينات ( المادة 120/2 ) .
- سلطة القاضي في ضبط الجلسة وإخراج من يخل بنظامها من القاعة أو تغريمه ( المادة 117/2 ) .
- سلطة القاضي في شطب العبارات الجارحة أو المخالفة للآداب أو النظام العام من محضر الجلسة ( المادة 117/ 3 ) .
- سلطة القاضي في القبض على من يرتكب جرما في الجلسة وإحالته للنيابة ، أو الحكم عليه بالعقوبة المقررة ( المادة 117/ 4 و 5 ) .
- هيمنة القاضي على إجراءات إدخال الخصوم والإذن بالطلبات العارضة لمصلحة العدالة أو لإظهار الحقيقة .
- سلطة القاضي في إدخال من يرى إدخاله في الدعوى لمصلحة العدالة أو إخراج من لم يكن هناك محل لإدخاله ( المادة 82/ 1 ) .
- سلطة القاضي في أن يأذن أو لا يأذن بقبول الطلب العارض من المدعي مما يكون مرتبطا بالطلب الأصلي ( المادة 97/4) وكذلك الأمر بالنسبة للطلب العارض المقدم من المدعى عليه(المادة 98/3)
- سلطة القاضي في حالتي الإدخال والتدخل بتكليف المدعي أن يعدل لائحة دعواه ( المادة 99/1) .
- سلطة القاضي في ضم الدفوع التي يبديها المدعى عليه إلى موضوع الدعوى أو الحكم فيها على استقلال ( المادة 91/2) .
- سلطة القاضي في إثارة الدفوع المتعلقة بالنظام العام من تلقاء نفسه ( المادة 92 ) .
- سلطة القاضي في حالة اتفاق الخصوم على إحالة الدعوى لمحكمة أخرى غير مختصة بنظرها في إجابة الطلب أو عدم إجابة الطلب ( المادة 94 ) .
10-سلطة القاضي في نظر الاستدعاء المقدم له سندا للمادة 101/1 بحضور
المستدعي وحده أو تبليغ الخصم الآخر صورة عن الاستدعاء ( المادة
101/2) .
11- سلطة القاضي في وقف السير في الدعوى إذا رأى أن الحكم في موضوعها
يتوقف على الفصل في مسألة أخرى ( المادة 126/1 ) .
12- سلطة القاضي في تبليغ ورثة الخصم المتوفى أو من يقوم مقام من فقد أهليته
للخصوم أو زالت صفة من كان يمثله ( المادة 84/1) .
13- سلطة القاضي في إعادة فتح باب المرافعة لأسباب جدية وضرورية للفصل
في الدعوى (المادة 166) .
14 – سلطة القاضي في تصحيح ما قد يرد في الأحكام من أخطاء مادية بحتة
كتابية أو حسابية وذلك بقرار يصدره من تلقاء نفسه ( المادة 183/1 ) .